ابتكار إثيوبيا.. كيف صنع الغرب حرب المياه بين دول حوض النيل؟

محمد789456123

عضو مميز
إنضم
May 15, 2020
المشاركات
717
مستوى التفاعل
1,125
مع انتصاف القرن التاسع عشر بدأت الاكتشافات الغربية تطرق باب دول حوض النيل، وأدرك الخديو إسماعيل مبكرًا الطابع الاستعماري لهذه الحملات العلمية، وعلى إثره سارع بقطع الطريق أمام الغرب والتمدد جنوبًا، وملء الفراغ الاستراتيجي والجيوسياسي في البحر الأحمر وشرق أفريقيا والقرن الأفريقي، وذلك عبر تأسيس مديرية (محافظة) خط الاستواء التي تضم أجزاءً مما يعرف اليوم بإثيوبيا وأوغندا، إضافة إلى الصومال وإريتريا ومنطقة البحيرات العظمى المنبع الرئيسي لنهر النيل، وذلك في زمن كان السودان وجنوب السودان جزءًا من الدولة المصرية.

ولم يصمت الغرب، على ضوء مطامع بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وحتى روسيا القيصرية في النهل من خيرات تلك المناطق، إضافة إلى الحلم الاستراتيجي للغرب بضرب أقوى قوة في الشرق ألا وهي مصر، وذلك عبر تطويقها من الجنوب ومحاولة قطع شريان الحياة عن الأمة المصرية ألا وهو نهر النيل.

وقد أدركت القوى العظمى أنها بحاجة إلى حارس للمصالح الغربية في تلك المنطقة ومندوب دائم للمؤامرة على النيل، وعلى ضوء حقيقة أن مصر كانت الدولة الوحيدة الحقيقية في هذه المنطقة، بينما باقي الأقاليم الأفريقية تعج بالممالك والإمارات الأفريقية البدائية التي كانت ترحب بالوجود والحماية المصرية على ضوء حقيقة تاريخية تنص على أن مصر لم تحارب في أفريقيا يومًا ما قط، رأى الغرب حتمية أن “يصنع” غريمًا لمصر ودولة موازية لو أمكن على ضفاف نهر النيل، ولم يكن متاحًا للغرب وقتذاك أو تاريخيًا غير إثيوبيا.

إن إثيوبيا التي نعرفها اليوم مختلفة عن إثيوبيا التاريخية، إثيوبيا التاريخية لم تكن حدودها الدائمة تخرج عن الهضبة الإثيوبية، بينما أغلب الأقاليم الإثيوبية المتعارف عليها في القرن العشرين كانت إمارات وممالك أفريقية مستقلة، إضافة إلى أجزاء من الصومال وأقاليم تتبع تاريخيًا السودان أو سودان مصر، المسمى التاريخي للسودان حينما كان السودان الامتداد الجنوبي الطبيعي لمصر.

المؤرخة المصرية د. داليا سعد الدين في كتاب “إثيوبيا.. التوسع وتأسيس الدولة”، ترصد كيف ابتكر الغرب إثيوبيا الحديثة من أجل حراسة المصالح الغربية في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي وحوض النيل والبحر الأحمر لو أمكن، إضافة إلى رعايتها لمشروع الغرب منذ الحروب الصليبية لمحاولة قطع شريان الحياة عن الأمة المصرية.. مياه نهر النيل.

إثيوبيا قبل التدخل الأجنبي في القرن التاسع عشر

لم تكن الهضبة الإثيوبية دولة مستقرة، بل كانت مقسمة دائمًا إلى عدد من الممالك، والملك القوي فيهم ينصب بالاتفاق بين الملوك على عرش الإمبراطور، العرش الذي أطلقوا عليه “نجاش ناجوشت”، فكان إمبراطور إثيوبيا عادة ما يتم اختياره بالتوافق بين ملوك الممالك الإثيوبية، وقد أدى هذا النمط في تولي عرش الإمبراطور إلى صراعات سياسية جمة بين الملوك، وشبكة من التوازنات العرقية ظلت دائمًا رخوة إلا في حالات نادرة حينما كان يعتلي عرش الإمبراطور ملك قوي.

وإلى جانب هذا النظام الفيدرالي بشكل قبائلي، فإن الكنيسة الإثيوبية كانت لاعبًا مهمًا، علمًا بأن “كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية” ظلت تابعة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية منذ القرن الرابع ميلاديًا وحتى عام 1959، حيث كان بابا الإسكندرية هو من يعين مطران إثيوبيا طيلة 16 قرنًا من الزمان، ثم تم الفصل بين الكنيستين بموافقة البابا يوساب الثاني عام 1948 ثم البابا كيرلس السادس عام 1959.

والدين المسيحي الإثيوبي مختلف عن الكنائس الأرثوذكسية، فهو متأثر بظلامية الأوثان الأفريقية، فلا يمارس بالسماحة والتصوف المسيحي المعتاد، إضافة إلى أن الكنيسة الإثيوبية تحولت عبر الزمن إلى كيان إقطاعي ضخم تسيطر عليه شبكة مصالح يديرها أشخاص يجهلون القراءة والكتابة، كان دخول الكنيسة بالنسبة لهم فرصة عمل افضل من البطالة التي تضرب الهضبة الإثيوبية، وتقارب تعاليم الكنيسة الإثيوبية “اليهودية الأرثوذكسية” بأكثر مما تقارب “المسيحية الارثوذكسية”.

ويعود ذلك إلى أن أغلب المسيحيين حول العالم يؤمنون بـ”التوراة” باعتبارها “العهد القديم” و”الإنجيل” باعتباره “العهد الجديد” ولكن مسحيي إثيوبيا لديهم كتاب ثالث هو “كبرا نجشت” أو “جلال الملوك”، يعتبر نصوص التدين الشعبي الإثيوبي، أشبه بدمج أساطير وثنية مع نصوص مسيحية، وحتى بعض الديباجات المنقولة عن دين الإسلام، بالإضافة إلى قسم كبير من النصوص الدينية المصرية القديمة.

الأحباش شعب الله المختار

ونقرأ من “كبرا نجشت” أن ملك إسرائيل النبي سليمان قد تزوج ملكة إثيوبيا ماكيدا، التي حلت محل الملكة بلقيس ملكة سبأ في التراث الإسلامي واليهودي، وانه أنجب منها الملك الإثيوبي منليك – منليك الأول لاحقًا – وأن من هذا النسل خرج الشعب الإثيوبي باعتباره شعب الله المختار بعد أن غضب الله على بنى إسرائيل.

وواصلت الكنيسة الإثيوبية توظيف الخرافات الأفريقية في خطابها، وصاغت فكرة أن الإثيوبيين هم شعب الله المختار؛ لأن ملك ملوك إثيوبيا من نسل كهنوتي مقدس ألا وهو الملك منليك الأول ابن الملك سليمان، وان الملك منليك أحضر 12 قاضيًا حينما زار والده في القدس، وعلى يد منليك والإثنى عشر قاضيًا تم تأسيس الدولة الإثيوبية، وهو نفس عدد تلاميذ المسيح واسباط/قبائل بني إسرائيل.

كتاب “كبرا نجشت” المكتوب في القرن الثالث عشر يمعن في تشبيه منليك بالسيد المسيح، وان مملكة داود المقدسة في الأرض هي إثيوبيا وليست القدس بعد أن غادر الرب غاضبًا أورشليم واستقر في الهضبة الإثيوبية.

وعلى ضوء تلك النصوص المتطرفة، يسيطر على المتدينين الإثيوبيين بدعم من الكنيسة فكرة النقاء العرقي الإثيوبي عن شعوب العالم باعتبارهم من نسل النبي سليمان، حيث يصدح خطاب الكنيسة الإثيوبية بفكرة العرق السامي أو النقاء العرقي بالانتماء إلى الأنبياء و”سارة العبرانية” – وفقًا للمعتقد اليهودي – بدلًا عن “هاجر المصرية” – زوجات النبي إبراهيم – وأن الإثيوبيين ارقى من الشعوب الأفريقية عمومًا والمصريين خصوصًا، ما ينبئ بعنصرية حبشية ونازية عرقية إثيوبية منذ القرن الثالث عشر حيال باقي دول الجوار الإثيوبي عمومًا ومصر على وجه التحديد على اعتبار إيمان الإثيوبيين بالنص الديني اليهودي بأن الله فضل سارة العبرانية وابنها إسحاق على هاجر المصرية وابنها إسماعيل.

التطرف الإثيوبي حيال الديانات الأخرى

ورغم تطابق الإثيوبية الأرثوذكسية مع اليهودية الارثوذكسية في كثير من الأمور، الا أن التاريخ يشهد خاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين أنه كلما صعد إمبراطور قوي على عرش إثيوبيا وسعى لخطب ود الكنيسة واستثمار المشاعر الدينية المتطرفة، كان يشن حملة ضخمة لنشر المسيحية – التنصير وفقًا لمصطلحات المسلمين – قسرًا على اليهود والمسلمين والوثنيين وهدم معابد الديانات الأفريقية المحلية.

ولم يكن التطرف الإثيوبي خاصًا بالدين المسيحي بل حكرًا على الأرثوذكس فحسب، اذ رفض الإثيوبيون بدعم من الكنيسة على مدار قرون التوسع في تشييد كنائس للمسيحيين الروم أو الأرمن أو الكاثوليك، وسعت إثيوبيا مرارًا إلى تحويل كل ما هو مسيحي غير أرثوذكسي إلى الأرثوذكسية.

هكذا مهدت المعتقدات المسيحية الإثيوبية الطريق أمام الكنيسة أو الحاكم الإثيوبي لوضع شعوب الهضبة الإثيوبية على طريق شن “حملة صليبية إثيوبية في قلب أفريقيا”.

ولعل هذا التأصيل الديني المتطرف هو المدخل المناسب لفهم تطرف بعض ساسة إثيوبيا في التعامل مع ملف مصر منذ قرون من الزمان، فالعداء مع مصر يتم توظيفه سياسيًا ودينيًا من أجل كسب الشعبية، تمامًا كما يفعل النظام الإثيوبي المتصدع منذ تسعينات القرن العشرين وحتى لحظة كتابة تلك السطور.

“هيكلة إثيوبيا” لحراسة المصالح الغربية

ومع بدء اهتمام الغرب بإثيوبيا باعتبارها المتاح الوحيد أمام أوروبا وذلك خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ساعدت بريطانيا الإمبراطور الإثيوبي ثيودور الثاني في تثبيت دعائم حكمه، وبدأ ثيودور الثاني في الدعوة لغزو السودان ثم مصر وردم نهر “النيل الأزرق” حال وصوله إلى السودان، وأنه عقب ذلك سوف يشن حملة على القدس لتخليصها من المسلمين.

أنهي ثيودور الثاني ما عُرف بعصر الأمراء، ويلقب عصره بعصر بداية إثيوبيا الحديثة، حكم إثيوبيا ما بين عامي 1855 و1868 إلى أن ساءت علاقته بالإنجليز حيث تعرض للرهبان الإنجليز واعتقل بعض التجار الإنجليز دون أن يفهم أن التجار والرهبان الإنجليز يتحركون بمظلة حكومية استعمارية، وتدخلت بريطانيا لإزاحته عبر حملة عسكرية، وعقب هزيمته عسكريًا في مجدلا انتحر عام 1868 وأسر البريطانيين ابنه وأرسل أسيرًا إلى إنجلترا، وفى عام 1871 اتفقت القوى الدولية على تنصيب يوحنا الرابع إمبراطورًا لإثيوبيا.

بالتزامن مع صعود يوحنا الرابع، كانت إحدى الممالك الإثيوبية وتسمى “شوا” قد بزغ نجم ملكها “سهلا ماريم” أو من سوف يعرف في التاريخ لاحقًا بـ “منليك الثاني”، وكان من السهل على منليك الثاني الزحف إلى العاصمة وإزاحة يوحنا الرابع، ولكنه تواصل مع بريطانيا التي أوقفته بالقول إن يوحنا الرابع يؤدى مهمة مقدسة ويخدم الديانة المسيحية بمحاربة ما أسمته في الوثائق “مصر العثمانية” و”الثورة المهدية في السودان”.

منليك الثاني - ويكيبيديا

وعلى إثر ذلك بدأ منليك الثاني ملك شوا في توسيع رقعة حكمه استغلالًا لانشغال الجيش المصري بمحاربة يوحنا الرابع، وبدأ الضعف المصري في القارة الأفريقية، وتوجه ملك شوا إلى الشرق وغزا سلطنة هرر عام 1887 ثم إقليم أوجادين الصومالي، وكلاهما كان ضمن الأقاليم المصرية، وهكذا وسع منليك الثاني مملكته وانتظر اللحظة التي سوف يقفز فيها على عرش يوحنا الرابع.

تصفية “مصر الأفريقية”

مع غزو بريطانيا لمصر بدأت إيطاليا وفرنسا وبريطانيا في تقسيم السواحل المصرية الأفريقية الشرقية، حيث اتفق الغرب على تصفية الوجود والنفوذ المصري في أفريقيا وتقليص مساحة مصر إلى حدودها الجنوبية الحالية مع السودان، مع استخدام إثيوبيا كجماعة وظيفية وحائط سد بين مناطق النفوذ الغربية والحدود المصرية، على ضوء بعض الصعوبات اللوجستية في الوجود الغربي المكثف في تلك المناطق، ما يعني عمليًا أن إثيوبيا لعبت دور رجل الاستعمار الغربي في القرن الأفريقي وشرق أفريقيا ومحيط الحدود المصرية، كما كانت بريطانيا في التوقيت ذاته تقوم بتفكيك نفوذ سلطنة عمان في شرق أفريقيا أو ما يعرف اليوم بإقليم زنجبار في تنزانيا.

الأقاليم المصرية الساحلية في أفريقيا وقتذاك كانت تشمل مدن: بربرة وراس جوردفري وسواكن ومصوع وزيلع وبوجوس وهرر، ما يعني عمليًا السيطرة على سواحل أفريقيا كاملة على البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وقد امتد التخريب البريطاني والغربي والإثيوبي إليها إلى محو الإرث التاريخي لحواضر المدن الساحلية الإسلامية، حلم الحملات الصليبية البرتغالية القديم الذي حاول فاسكو دي جاما أن ينفذه بقصف تلك السواحل بالمدفعية البرتغالية الثقيلة.

وكانت مصر قد شيدت ثورة إدارية وإنشائية في كافة الممالك والأقاليم الأفريقية التي دخلتها في شرق ووسط أفريقيا، وكانت الأوامر الغربية صريحة للقوى الاستعمارية أو إثيوبيا بضرورة “إبادة ثقافية” ضد هذا التواجد بمحو كافة الأنظمة الإدارية التي أسستها الإدارة المصرية لهذه الممالك، وتدمير المنشآت المصرية الموجودة وتسويتها بالأرض، ومحو حقيقة أن مصر كان لها موطئ قدم في هذه المناطق يومًا ما.

وواجهت إثيوبيا مشكلة في الديموجرافيا المسلمة في هذه المناطق المستقلة طيلة قرون من الزمان وكانت ممالك مسلمة لها تاريخ مهم، وبدأ الإجبار على التحول الديني وبث ثقافة أن تلك الشعوب الأفريقية هي ليست أفريقية فحسب ولكنها “شعوب إثيوبية” ويحق لإثيوبيا تمديد جغرافيتها إلى تلك المناطق.

الاستعمار الإثيوبي للشعوب الأفريقية

شعوب أوجادين وأورمو والعفر وإريتريا أطلقوا على تلك الحقبة الاستعمار الأسود تمييزًا عن الاستعمار الأبيض، ما يعني أن تلك الشعوب التي تنسب إلى إثيوبيا اليوم تنظر إلى الحكم الإثيوبي باعتباره استعمارًا، وما نراه اليوم من ثورات تلك الأقاليم لا يُعدُّ اضطرابات داخلية أو محاولات انفصالية، بل هي شعوب تحت الاستعمار تحاول الاستقلال والظفر بالجلاء من وطأة الاستعمار الإثيوبي.

ورغم أن الغرب دعم يوحنا الرابع في حروبه مع مصر والسودان، إلا ان أوروبا تفهمت قوة منليك الثاني مبكرًا، وأنه رجل إثيوبيا القادم، ولم يكرر الغرب خطأ بريطانيا مع ثيودور الثاني، ومع منليك الثاني تم تسليحه عبر فرنسا وإيطاليا وبريطانيا بشروط صارمة تتعلق بحرية الملاحة والتجارة الغربية وأن يقوم باحتلال سلطنة هرر وبعض السلاطين والإمارات الأفريقية وضمها إلى الإمارات الإثيوبية، قبل أن يصبح إمبراطورًا لإثيوبيا في اختبار ناجح لقوته.

الغرب يقتطع الأقاليم المصرية الأفريقية ويضمها إلى إثيوبيا

في مؤتمر برلين 1884، شكل الغرب حدود إثيوبيا الحالية، إعطاء إقليم أوجادين من الصومال، وأقاليم السهل وبنى شنقول وجامبيلا وجماز من السودان، وللمفارقة فإن تلك الأقاليم السودانية كنت تحت الإدارة المصرية لقرون من الزمان، واليوم يقع سد النهضة الإثيوبي في ولاية بنى شنقول – جماز، الأرض المصرية التي سلمها الاحتلال البريطاني إلى إثيوبيا بمعرفة ألمانيا وإيطاليا وفرنسا.

أفضى مؤتمر برلين إلى تصفية “مصر الأفريقية”، المحافظات المصرية في السودان وجنوب السودان والصومال وإريتريا وأوغندا لصالح بريطانيا وإيطاليا وفرنسا، وهيكلة وابتكار امبراطورية هضبة الحبشة من أجل إنتاج إثيوبيا المتعارف عليها اليوم.

وفى عام 1889 لقى الامبراطور يوحنا الرابع مصرعه في إحدى معاركه مع أتباع الثورة المهدية في السودان، حيث قاموا بحمل جثمانه إلى عاصمتهم في أم درمان بالسودان، وعلقوا رأسه على حرباء وطافوا بها شوارع عاصمة ثورتهم.

اتفق الغرب على تعيين منليك الثاني ملك “شوا” القوي إمبراطوريًا على إثيوبيا، على ضوء حكمه الناجح لشوا منذ عام 1865، وتميزت فترة حكمه لإثيوبيا ما بين عامي 1889 و1913 بإنهاء عملية صناعة وهيكلة إثيوبيا لإنتاج إثيوبيا الجديدة الحديثة، الحليف الصليبي الأفريقي لأوروبا كما ترى كنيسة التوحيد الإثيوبية، وحارس المصالح الغربية في دول حوض النيل كما يراه الاستعمار الغربي.

صعود الإمبراطور منليك الثاني وتشدد الخطاب الديني

اختار سهلا ماريم لقب منليك الثاني بدهاء شديد على ضوء أن الملك الإثيوبي التاريخي منليك هو أبو الأمة الإثيوبية في الوعي الجمعي والرواية الشعبية التاريخية، ابن الملك النبي سليمان، وصاغ منليك مصطلح السلالة السليمانية على اعتبار أن كافة اباطرة إثيوبيا من سلالة واحدة مقدسة تتصل بالنبي سليمان وأنبياء العهد القديم.

وصاغ منليك الثاني خطابًا دينيًا شديد التطرف حيال المسلمين في إثيوبيا وأفريقيا ومصر فكان اسمه لا يزال إلا بالإمبراطور منليك الثاني ابن منليك الأول وسلسال الأسرة السليمانية، وفي رسالة لحكام أوروبا عام 1891 كتب: “لقد ظلت إثيوبيا جزيرة مسيحية لمدة 14 قرنًا من الزمان وسط محيط من الملحدين الكفار”.

وحينما فكرت إيطاليا في تجاوز الاتفاقيات الأوروبية حول تقاسم الاستعمار في أفريقيا، وبدأت في غزو إثيوبيا، إضافة إلى بدء ألمانيا القيصرية في مد نفوذها في شرق أفريقيا حيال المناطق البريطانية والفرنسية، أمده الفرنسيون بالسلاح، بل وكانت روسيا القيصرية أكثر سخاءً فأمدته بالسلاح والمستشارين العسكريين الذين كان لهم دور تاريخي في الحرب نيابة عن إثيوبيا وهزيمة إيطاليا في معركة عدوة عام 1896.

فصل الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة المصرية

ولم تتوقف روسيا القيصرية عن مساعدة منليك الثاني في هزيمة إيطاليا وردع النفوذ الألماني بل كانت أول من زرع في رأس منليك الثاني فكرة فصل الكنيسة الإثيوبية الأرثوذكسية عن الكنيسة المرقسية المصرية، في إطار التنافس التاريخي بين الكنيسة الروسية والمصرية. رغم عراقة وقدم الكنيسة المصرية إلا أن التنافس على الزعامة الأرثوذكسية لم يتوقف منذ إنشاء بطريركية موسكو في محاولة لمنافسة الزعامة التاريخية لبابا الإسكندرية.

وقد رأى منليك الثاني أن المراسلات الروسية في هذا الصدد محقة، على ضوء أن الكنيسة الإثيوبية من وجهة نظره يجب أن ترث إرث الكنيسة القبطية في أفريقيا وصولًا إلى القدس، وفى نفس الحقبة التاريخية بدأت إثيوبيا بمساعدة روسية تطالب بملكية دير السلطان، الدير المصري القبطي في بيت المقدس، وكان منليك الثاني يرى أن شعب الله المختار يجب أن يكون له موطئ قدم في أورشليم.

ويُلاحظ أن إسرائيل قد سلّمت دير السلطان إلى الكنيسة الإثيوبية بدلًا عن الكنيسة المصرية عقب هذا المطلب بمئة عام تقريبًا، ما يوضح أننا بصدد أجندة استعمارية لا مجرد تحركات صهيونية أو إثيوبية، بل هي إملاءات للقوى العظمي بغرض تصفية القوة المصرية سواء السياسية أو التاريخية أو حتى الدينية.

وكان يفترض أن تطلب روسيا القيصرية من منليك الثاني حال نجاحه في فصل الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة المصرية بأن يتم ضم الكنيسة الإثيوبية إلى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، ما يُعدُّ تمددًا تاريخيًا للنفوذ الروسي في أفريقيا، ولكن للمفارقة التاريخية فإن هذا الفصل تم منتصف القرن العشرين في زمن كانت السياسة السوفيتية لا تستخدم “المسيحية السياسية” و”الأرثوذكسية السياسية” حيث عمل السوفييت على تدبير أول انقلاب في إثيوبيا وتنصيب حاكم شيوعي وتم ذلك بعيدًا عن استخدام الدين.

وللمفارقة فإن فرنسا سعت ايضًا إلى دعم المطلب الإثيوبي في زمن منليك الثاني من أجل التوصل لاتفاق بين الكنيسة الإثيوبية والكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، ولا يعرف حتى اليوم ما هي الترتيبات التي كانت باريس تنوي القيام بها من أجل اتفاق بين كنيستها الرومانية الكاثوليكية وكنيسة أرثوذكسية متطرفة مثل الكنيسة الإثيوبية.

صناعة حرب المياه من أجل نهر النيل

ومع حلول العقد الأول من القرن العشرين، كان التنافس الاستعماري بين فرنسا وبريطانيا في أعالي النيل قد انتهي، سيطرت فرنسا على جيبوتي والكونجو الفرنسية، أما بريطانيا فقد صبغت ما فعلته في محو للوجود المصري وصناعة إثيوبيا بشبكة من الاتفاقيات الدولية آخرها اتفاق ترسيم الحدود بين بريطانيا وإثيوبيا في 6 ديسمبر 1907 بتوقيع اتفاقية أديس ابابا، وهى فصل مضحك في التاريخ، إذ إن بريطانيا التي صنعت حدود إثيوبيا، وقعت اتفاقًا باسم الاحتلال البريطاني في أوغندا وكينيا ومصر والسودان للاعتراف باحتلال إثيوبيا لأقاليم وممالك كانت تابعة لمصر والسودان وأوغندا وكينيا!

وعلى ضوء كل التطرف والشحن الديني الذي قام به قساوسة وأباطرة إثيوبيا طيلة قرون من الزمان، وتاليًا الاستعمار الغربي وأخيرًا ساسة إثيوبيا، لم تكن حرب المياه مع مصر بحاجة إلى مجهود بل مجرد فكرة أمريكية بريطانية بدأت تنفذ على أرض الواقع على مهل شديد منذ العدوان الثلاثي على مصر حتى ما وصلنا إليه اليوم من مناقشات جارية في مجلس الأمن الدولي والاتحاد الأفريقي حيال السد الإثيوبي وآثاره على الحقوق التاريخية لمصر والسودان في مياه نهر النيل.

 

الاعضاء الذين يشاهدون الموضوع (المجموع: 1, الاعضاء: 0,الزوار: 1)

أعلى